هرب بشار الأسد. المعارضة السورية المسلحة دخلت دمشق. حكم عائلة الأسد لسوريا انتهى. هكذا تتواتر الأخبار منذ صباح الثامن من ديسمبر 2024. معلنة نهاية ما يزيد على نصف قرن من حكم عائلة الأسد لسوريا.
بدأت تلك السنوات الطويلة في عام 1970 حين قام شاب في القوات الجوية بقيادة انقلاب دموي انتزع به السلطة. ثم من تلك اللحظة عمد حافظ الأسد إلى تدعيم أركان ملكه بشخصيات من طائفته العلوية لتحتل مناصب رفيعة في الدولة، بعد أن كانوا أقلية مهمشة، ثم أسس دولة بوليسية تعتمد على الحزب الواحد تبعاً للطراز السوفييتي.
رغم أن انقلاب حافظ الأسد كان بعنوان الحركة التصحيحية. فقد قال الأسد، إنه يسعى لتحقيق الاستقرار والإصلاح، لكنه سرعان ما أخلف وعوده، وأحكم قبضته على كل مفاصل الدولة. فألغى التعددية السياسية وأسس نظاماً استبدادياً سيطر على حزب البعث العربي الاشتراكي وحوله إلى أداة لخدمة مصالحه الشخصية. واستحدث أجهزة أمنية شديدة القسوة استخدمها لقمع أي معارضة سياسية أو فكرية.
فقد شهدت فترة حكم حافظ الأسد قمعاً دموياً للمعارضين. أبرز الأحداث كانت مجزرة حماة عام 1982، حيث أمر الأسد بقصف المدينة وقتل عشرات الآلاف من المدنيين بحجة القضاء على تمرد جماعة الإخوان المسلمين. فرغم غياب الأرقام الدقيقة بسبب التعتيم الإعلامي فإن الأحاديث تدور حول مقتل 20 إلى 40 ألف شخص، معظمهم من المدنيين. كما أن الآلاف اعتقلوا، ولا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اليوم.
وقد كانت تلك المجزرة تحديداً رسالة واضحة بأن أي تحدٍ للنظام سيواجه بالقوة المفرطة، غير المتناسبة، فضلاً عن وأد أي احتمالية للحوار السياسي والدبلوماسي. مما أدى إلى غرس الخوف في قلوب السوريين، وكبت حرياتهم لعقود طويلة.
باتوا لا يملكون سوى الانشغال بحياتهم اليومية، ومحاولة النجاة من مطحنة الحياة. لكن حتى تلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية انهارت، وباتت حياة السوريين مأساة متواصلة. فقد تبنى الأسد سياسات اقتصادية موجهة فشلت في تحقيق التنمية. وانتشر الفساد بشكل ممنهج، وأصبحت موارد الدولة تُنهب من قبل النخبة الحاكمة. وأهمل الزراعة والصناعة، واعتمد على المساعدات الخارجية والتحويلات المالية من المغتربين.
لم يكتف نظام الأسد الأب بالقمع عبر القوة، بل أراد أن يستقر نظامه لأطول فترة ممكنة ولو حتى على أنقاض السلم المجتمعي، وتلاحم السوريين مع بعضهم. ورغم أن النظام رفع شعارات قومية وعلمانية، فإنه اعتمد على النخبة العلوية لتأمين سلطته، وأهمل باقي الطوائف، بل ودخل معها في عداء مباشر. فأدى هذا التمييز الطائفي إلى تفاقم الانقسامات بين مكونات الشعب السوري.
هذه العداوات ظلت مستمرة في النسيج السوري لسنوات طويلة. فرغم أن حكم حافظ الأسد قد انتهى بوفاته في 10 يونيو عام 2000 نتيجة إصابته بنوبة قلبية، بعد أن قضى نحو 30 عاماً في السلطة. وجعل أكثر من 20% من السكان يعيشون تحت خط الفقر. وارتفع الدين الخارجي إلى ما يقارب 20 مليار دولار بحلول التسعينيات، مما أثقل كاهل الاقتصاد، فإن وفاته التي كان من المفترض أن تحمل بريق أمل للسوريين، باتت نقطة تحول نحو الأسوأ في تاريخ سوريا، إذ انتقلت السلطة مباشرة إلى ابنه بشار الأسد، في عملية تم ترتيبها بعناية لضمان استمرارية النظام الذي بناه حافظ.
فخلال السنوات الأخيرة من حكمه، عانى حافظ الأسد من مشاكل صحية خطيرة، بما في ذلك أمراض القلب والتهاب البنكرياس. ورغم تدهور صحته، أصر على التمسك بالسلطة، وظل يتحكم في جميع جوانب الحكم حتى وفاته. لكن في لحظة ما أدرك أنه لا بد من أن يترك هو المنصب، فعمل جاهداً على أن يضمنه لأسرته.
قبل وفاته، كان حافظ الأسد قد بدأ بإعداد نجله الأكبر، باسل الأسد، لخلافته. إلا أن باسل توفي في حادث سيارة عام 1994، مما أجبر حافظ على إعادة ترتيب خططه وتوجيه ابنه الثاني، بشار الأسد ليكون خليفته. وبعد وفاة حافظ الأسد تم تعديل الدستور السوري بسرعة لتخفيض الحد الأدنى لسن الرئيس من 40 عاماً إلى 34 عاماً، وهو عمر بشار في ذلك الوقت. ليتم في يوليو عام 2000، تعيين بشار الأسد رئيساً للجمهورية بعد استفتاء شعبي صوري. واستمر نفس النهج الاستبدادي الذي أسس له الأسد الأب تحت قيادة الابن.
رغم أن التفاؤل الحذر قد بدأ في مداعبة قلوب السوريين عنندما تولى بشار الحكم إثر وعوده بإصلاح النظام السياسي والاقتصادي. كما سمح بمظاهر محدودة للغاية، من الحريات، فيما عُرف بربيع دمشق لكنه سرعان ما ألغى ذلك الهامش عندما شعر بتهديد لنظامه.
ليتحول بذلك الأسد الابن إلى نسخة أسوأ من الأب، فاستمر الفساد في التغلغل بمؤسسات الدولة، وأصبح الاقتصاد يُدار لخدمة عائلة الأسد والمقربين منها. وتبنى سياسات ليبرالية جديدة عمقت الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وأهمل المناطق الريفية، مما أدى إلى تفاقم الفقر والبطالة، لا سيما بين الشباب. فبلغت البطالة نحو 8.4% رسمياً، بينما كانت المعدلات الفعلية تُقدر بأكثر من 20%، قبل عام 2011.
وحين خرج السوريون عام 2011 في احتجاجات شعبية تطالب بالحرية والكرامة، مستلهمة من ثورات الربيع العربي. رد بشار الأسد على الاحتجاجات بالقمع الوحشي، مما أدى إلى مقتل واعتقال الآلاف. فتصاعدت الأزمة إلى حرب أهلية نتيجة استخدام النظام القوة الوحشية ضد المتظاهرين.
واستخدم الأسلحة الثقيلة، بما في ذلك البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، لتدمير المدن التي خرجت عن سيطرته. فتعرضت مدن كبرى مثل حلب وحمص ودرعا وريف دمشق للدمار الشامل. وعمد إلى استغلال التوترات الطائفية، مستعيناً بميليشيات مثل حزب الله اللبناني، مما أدى إلى تفاقم الانقسامات الطائفية. واستدعى دعماً من روسيا وإيران، مما حول سوريا إلى ساحة صراع دولي.
وباتت سوريا مكاناً للصراع بالوكالة بين عديد من الأطياف والفرقاء الدوليين، هذا الصراع الذي لا يبدو أن سقوط بشار سوف ينهيه. فقد قُتل قرابة نصف مليون سوري بعد عام 2011 فقط. بينهم 25 ألف طفل و30 ألف امرأة. وأكثر من 1.5 مليون مصاب بجروح أو إعاقات دائمة. كما يقدر عدد المعتقلين في سجون النظام السوري بأكثر من 100 ألف شخص، مع وجود عشرات الآلاف من المفقودين.
ونزح أكثر من نصف السكان، بينهم ملايين اللاجئين في الخارج. وانخفضت قيمة العملة السورية بشكل غير مسبوق. فبعد أن كان الدولار يعادل 50 ليرة سورية. وصل الدولار إلى أكثر من 15 ألف ليرة سورية، مما أدى إلى انهيار القوة الشرائية بشكل شبه كامل.
دُمرت البنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والمصانع. ووصلت معدلات البطالة والفقر إلى مستويات قياسية تجاوزت أكثر من 50%. وأصبح أكثر من 90% من الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر. فانخفض الناتج المحلي الإجمالي من نحو 60 مليار دولار عام 2010 إلى أقل من 15 مليار دولار في عام 2023.
بجانب تأجيج الكراهية بين مكونات المجتمع السوري. مما جعل السوريين يفقدون الثقة في الدولة، وتحولت البلاد إلى دويلات متناحرة. حُرم فيها أكثر من 2.8 مليون طفل من التعليم بسبب الحرب. وخرج أكثر من 40% من المدارس عن الخدمة. ويعتمد أكثر من 70% من السكان على المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
وأصبح القرار السوري مرهوناً بالداعمين الخارجيين، خصوصاً روسيا وإيران. مما أفقد سوريا دورها الإقليمي، وتحولت إلى دولة غير موجودة إلا على الخرائط المدرسية القديمة. ولا يُذكر اسمها إلا في مؤشرات الفساد والدمار، ففي مؤشر الفساد لعام 2023 صُنفت سوريا ضمن الدول الثلاث الأكثر فساداً في العالم.
لكن في تاريخٍ لن ينساه السوريون، ولا المنطقة بأسرها، الثامن ديسمبر عام 2024 طُويت صفحة عائلة الأسد. ويترقب الجميع ما تحمله الأيام القادمة لسوريا، وللمنطقة التي تعيش أيامها حالياً على صفيح ساخن.